الاقتصاد

«قفزات الذهب تسجل أعلى مستوياتها والفيدرالي الأميركي في مواجهة تحديات غير مسبوقة»

في لحظة مشحونة بالتحديات، يجد الاقتصاد العالمي نفسه أمام مرحلة من بين الأكثر حساسية منذ نحو 15 عاماً، ورغم أن الأسواق اعتادت التعايش مع الاضطرابات، إلا أن الترقب الذي يسبق قرار الاحتياطي الفيدرالي الأميركي هذا الأسبوع يحمل طابعاً مميزاً وأبعاداً لم نشهدها في أي موقف مالي آخر منذ 2025، فهذا المشهد يتأثر بعدة عوامل، منها مؤشرات التضخم، وتحركات الدولار، واضطرابات الطاقة، إضافة إلى تأثير السياسة الأميركية الداخلية، وتداعيات الحروب، والتحولات الجيوسياسية، وبروز قوى اقتصادية جديدة في الشرق بوتيرة لم نرها من قبل.

الذهب يحقق مستويات قياسية جديدة… والقصة أعمق من مجرد ارتفاع سعري

عندما اقترب سعر الذهب من 4200 دولار للأونصة، لم يكن ذلك مجرد استمرار لارتفاع تقليدي، بل هو نتيجة لثلاثة تحولات رئيسية: المستثمرون يبحثون عن اليقين بدل المعدن نفسه، ففي فترات عدم اليقين، يتحرى المستثمرون عن أصل لا يتآكل مع الزمن، ولا يتأثر بالعقوبات أو النزاعات السياسية، ولا يعتمد على سياسة نقدية يمكن أن تتغير بكلمة واحدة من رئيس البنك المركزي، والذهب يمثل هذا الأصل.

الزيادة السريعة في الأيام القليلة الماضية تشير إلى أن المستثمرين لا يترقبون فقط قرار الفائدة، بل يستعدون لمرحلة قد تكون طويلة وعميقة على حد سواء، والتوقعات تدخلت لتكون جزءاً من التحليل، وعدم اليقين بشأن مسار الاقتصاد الأميركي في 2025 يضيف زخمًا إلى المعدن الأصفر.

الفيدرالي يقترب من خفض الفائدة… والذهب يدرك ذلك جيداً

عادةً ما يرتفع سعر الذهب عندما تنخفض أسعار الفائدة، لأن تكلفة الاحتفاظ بأصل غير مدر للعائد تصبح أقل، والأسواق اليوم تسعّر احتمالاً يصل إلى 90% لخفض الفائدة هذا الأسبوع، لكن الأهم معرفته هو لغة البيان ونبرة التوجيه المستقبلي، فإذا ألمح الفيدرالي إلى مسار بطيء لخفض الفائدة، قد نرى جني أرباح محدود، لكن الاتجاه الصاعد سيبقى مسيطرًا، أما إذا أشار إلى تسريع الوتيرة، فقد نشهد موجة ارتفاع غير مسبوقة.

أما بالنسبة للفضة، فقد شهدت قفزة إلى ما يقارب 59 دولاراً، وهو أعلى سعر في تاريخها الحديث، والتفسير التقليدي يتعلق بشح المعروض وتقلص المخزون، لكن الوضع أكبر من ذلك، حيث دخلت الفضة في طيف الأصول التي تجذب المستثمرين الباحثين عن تنويع محافظهم بعيداً عن الدولار، ومع توسيع دور الفضة في الطاقة المتجددة والإلكترونيات المتطورة، أصبحت تتحرك في نطاق مزدوج كأصل استثماري وصناعي.

النفط يتأرجح بين وفرة المعروض والهزات الجيوسياسية

فيما يتعلق بأسعار النفط، رغم استقرارها المفاجئ بعد انخفاض بنسبة 2%، إلا أن الصورة الكاملة أكثر تعقيدًا، حيث تذبذبت الإمدادات في العراق، واحتمالات عودة جزء من النفط الروسي إلى السوق، بالإضافة إلى مفاوضات السلام المتقطعة حول الحرب الأوكرانية، تجعل أسعار الخام في موقع حرج لا يتحمل كثيراً من الاضطرابات، فالوفرة تضغط، لكن المخاوف تمنع الانهيار.

أسعار برنت قرب 62 دولاراً ليست مجرد تعبير عن ضعف الطلب، بل نتيجة لعودة الإنتاج من حقول عراقية ضخمة وارتفاع المخزونات، ولكن تبقى هذه الأسعار هشة، فأي انهيار في المحادثات الدولية أو أي تطور عسكري قد يقفز بالأسعار لتتجاوز 70 دولاراً خلال أسابيع.

العنصرالسعر
أسعار الذهب للأونصة4200 دولار
أسعار الفضة59 دولار
أسعار برنت62 دولار

التوقعات لعام 2025 تشير إلى توازن دقيق في السوق، لكن مع أفضلية نسبية للمستهلكين، فالولايات المتحدة قد تعيد جزءاً من إنتاج الطاقة الروسي إلى السوق إذا تحققت تقدمات في مفاوضات السلام، وهذا التغير سيكون له تأثيرات كبيرة. بينما مجموعة السبع قد تفكر في تشديد العقوبات، وهو سيناريو سيعيد تشكيل ملامح التجارة العالمية للنفط.

قرار الفيدرالي… والصراع بين السياسة والاقتصاد

في الظروف الطبيعية، يراقب العالم احتياطي الفيدرالي باعتباره المركز المالي الأول، ولكن اللحظة الحالية مختلفة، فالسياسة الأميركية تلعب دورًا قويًا في اتخاذ القرارات النقدية، إذ يتدخل الرئيس الأميركي مطالبًا بخفض الفائدة كشرط للمرشحين الجدد لقيادة الفيدرالي، وهو ما يعد تدخلًا غير مسبوق في استقلالية المؤسسة النقدية الأكثر حساسية في العالم.

تصريحات الرئيس التي تصف رئيس الفيدرالي الحالي بـ”غير الذكي”، وتلميحه باختيار شخص يدعمه في خفض الفائدة، تضع الأسواق في حالة من الانتباه، وتؤكد على أننا أمام ضغط سياسي غير مسبوق على الفيدرالي، والذي يمكن أن يؤثر في الاتجاه الاقتصادي. القائمة المختصرة من المرشحين لرئاسة الفيدرالي تعكس انقسامًا واضحًا داخل الإدارة الأميركية حول مسألة خفض الفائدة وما قد يعكسه ذلك من رؤى حول مستقبل الاقتصاد الأميركي.

العالم يفضل دائماً وجود فيدرالي مستقل، ولكن تصريحات الرئيس الصادمة تزيد من التقلبات، مما يدفع المستثمرين إلى الذهب والملاذات الآمنة، وتقلل الثقة في قدرة السياسة النقدية الأميركية على العمل بعيداً عن الاعتبارات الانتخابية، فهل يمكن أن يغير خفض الفائدة قواعد اللعبة في 2025؟

خفض الفائدة بحد ذاته ليس حدثاً نادراً، لكن توقيته ودوافعه يجعلان تأثيره أكبر بكثير، حيث تراجعت التضخم إلى مستويات متوقعة، كما أن هناك تراجع في ثقة المستهلكين، بالإضافة إلى تباطؤ في سوق العمل، كلها عوامل تجعل الفيدرالي أمام واقع جديد يحتاج فيه الاقتصاد إلى دعم، ولكن التضخم لم يخضع تمامًا بعد.

السيناريو المحتمل هو “الخفض المتشدد”، أي أن الفيدرالي يخفض الفائدة مع الإشارة إلى عدم استعداده لتكرار ذلك قريبًا، وهذا النوع من القرارات يرسل رسالة مزدوجة: دعم محدود للاقتصاد، وحذر كبير من التضخم، لهذا يجعل التأثير العالمي أكبر مما يبدو، حيث يؤثر على حركة الدولار، واتجاه الرساميل في الأسواق الناشئة، وأسعار الطاقة، وتكلفة الاقتراض.

النظام المالي يدخل مرحلة إعادة تموضع… والعالم أمام ثلاث معادلات جديدة

بين الذهب والنفط والفائدة، تتشكل معالم معادلة عالمية جديدة تُلخص في ثلاثة اتجاهات رئيسية: الانتقال التدريجي من الدولار إلى المعادن الثمينة، وارتفاع الذهب والفضة كجزء من توجه عالمي لاستثمار المخاطر خصوصًا لدى البنوك المركزية والصناديق السيادية.

أسواق الطاقة ستظل أسيرة للمشهد الجيوسياسي، فالنفط الروسي لن يعود بسهولة، ولا يمكن تجاهل ما يحدث في أوكرانيا، مع تفاعل الأحداث في الشرق الأوسط. أسعار الطاقة في 2025 لن تستند فقط إلى العرض والطلب، بل ستعتمد على مسار الحروب ومفاوضات السلام والتحالفات الجديدة في آسيا، كما أن الفيدرالي سيعود ليكون في قلب الصراع الدولي.

عندما يخفف الفيدرالي الفائدة، يتراجع الدولار، وهذا بدوره يمنح الاقتصادات الناشئة المزيد من المرونة، حيث تدخل قوى جديدة على الساحة مثل الصين والهند وتركيا، مما يجعل تقسيم القوة الاقتصادية يحدث بشكل مختلف.

ماذا على المستثمرين مراقبته الآن؟

لمتابعة الاتجاه المقبل، هناك خمس نقاط رئيسية تستحق المراقبة: لغة بيان الفيدرالي الأميركي، فبضع كلمات قد تغير اتجاه الأسواق لفترة طويلة. رد فعل الدولار، أي هبوط سريع قد يرفع سعر الذهب. نتائج محادثات السلام بشأن أوكرانيا، لأنها تؤثر مباشرة على النفط. اختيارات ترامب المرشحة لرئاسة الفيدرالي، خاصة إذا تم الكشف عن الأسماء النهائية. وأخيرًا، بيانات سوق العمل الأميركية خلال الشهرين المقبلين، لأنها ستحدد ما إذا كان هناك خفض قريب أو بعيد.

هل نحن أمام بداية دورة جديدة من التضخم؟ هذا هو السؤال الأكثر إلحاحًا، إذ أن خفض الفائدة في وقت لم يصل فيه التضخم إلى المستويات المستهدفة قد يؤدي إلى إعادة إشعاله. ومع ذلك، فإن الفيدرالي يدرك ذلك جيدًا، ولذلك من المرجح أن يتجه نحو خفض محسوب وبطيء، ومع ذلك، فإن عودة التوتر في سلاسل التوريد، أو ارتفاع أسعار الطاقة، أو زيادة الإنفاق الحكومي قد تعيد التضخم إلى السطح.

أما بالنسبة لتوقعات الذهب والنفط في الأشهر المقبلة، فمن المتوقع أن يظل الذهب فوق 4000 دولار، مع احتمال تجاوزه حاجز 4500 دولار إذا تراجع الدولار بقوة، وزادت التوترات الجيوسياسية، وألمح الفيدرالي إلى دورة خفض مستمرة، في حين ربما تبقى الفضة ضمن نطاق 55 – 60 دولارًا، ولكنها قد تشهد انفجارًا صعوديًا إذا زاد الطلب الصناعي بشكل غير متوقع، وبالنسبة للنفط، ستتراوح أسعار برنت بين 60 و70 دولارًا، مع وجود توقعات لتذبذب حاد بحسب تقدم محادثات السلام.

في عالم يسوده عدم اليقين، تتوفر فرص غير مسبوقة، فإذا كان عام 2024 هو عام تلاشي المخاوف من ركود عالمي، فإن عام 2025 سيكون عام إعادة ترتيب الأولويات، فالاقتصاد العالمي اليوم يشبه لوحة شطرنج تحتاج جميع الأطراف فيها إلى تكييف خططهم، قرار الفيدرالي هذا الأسبوع سيكون الشرارة، بينما النار التي ستشتعل بعد ذلك ستحدد مستقبل الاقتصاد للسنوات القادمة.

في لحظات كهذه، لا يحتاج المستثمر إلى التنبؤات بقدر حاجته إلى الفهم، والفهم يبدأ من قراءة الصورة كاملة، بعيدًا عن العناوين السريعة، وقريبًا من الإشارات التي تكتب بين السطور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى