«مستقبل التقاعد في عصر التغييرات الجذرية» مستقبل مفهوم سن المعاش.. هل نودعه إلى الأبد؟

“في أقل من 10 إلى 20 سنة، قد يصبح العمل اختياريًا”، هي عبارة صدرت عن “إيلون ماسك” قبل أيام قليلة، وإذا تحققت، ستعني تغييرًا جذريًا في علاقة الإنسان بالوظيفة والوقت والدخل.
ففكرة تحويل العمل من ضرورة إلى خيار ليست مجرد خيال، بل سيناريو واقعي قد يطرحه تسارع التكنولوجيا، وتحول البنية الاقتصادية والاجتماعية في العالم.
تنبه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن حوالي 27% من الوظائف الحالية مهددة بالأتمتة بشكل كبير خلال العقدين القادمين، مما يعزز احتمالات تراجع دور العمل البشري في الاقتصاد.
إذا كان “ماسك” محقًا، فإن مفهوم التقاعد سوف يكون أول المتأثرين، حيث يقوم النظام المعاصر للتقاعد على أساس أن كل جيل يعمل لتمويل معاشات الجيل السابق، وقد ظهر هذا النموذج في منتصف القرن الماضي عندما كان العدد الأكبر من الشباب والعملاء أكبر، ولكن مع زيادة متوسط الأعمار، وتراجع معدلات المواليد، بدأت المعادلة تفقد توازنها.
مع تضاؤل قاعدة الممولين وزيادة قاعدة المستفيدين، أصبحت الإشكالية أكثر تعقيدًا، وإذا افترضنا أن العمل قد يصبح اختياريًا في المستقبل، فإن الأنظمة المعتمدة على “العاملين الجدد” ستجد نفسها أمام شريحة أصغر من المشاركين.
تزايد الشيخوخة، وانخفاض عدد المواليد، أو خيار الأجيال الجديدة في تقليل ساعات العمل أو الامتناع عن العمل altogether بفعل الأتمتة والذكاء الاصطناعي، قد تؤدي إلى انهيار أو إعادة تعريف جذري لقضية التقاعد.
ارتفاع سن التقاعد
في السنوات الأخيرة، واجهت أنظمة التقاعد حول العالم اختلالاً بنيويًا، مما جعل فكرة التقاعد في عمر ثابت شبه غير مستدام، ويرجع ذلك بسبب التغيرات الديمغرافية العميقة مثل ارتفاع متوسط العمر وزيادة نسبة كبار السن بينما انخفضت نسبة الشباب العاملين.
قبل حوالي مائة عام، كان العدد الكافي من العاملين لدعم أجيال المتقاعدين، لكن الصورة تغيرت، وأصبح اعتمادية أنظمة المعاشات على اشتراكات العاملين تؤثر بشكل مباشر على هذا الانخفاض في القاعدة العاملة.
هذا التحول دفع العديد من الدول إلى رفع سن التقاعد القانوني أو ربطه بمتوسط العمر المتوقع، ولم يعد الأمر خيارًا رفاهيًا بل إجراء ضروري للحفاظ على استقرار صناديق التقاعد وضمان قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية المقبلة.
توقع تقرير موثوق لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن متوسط سن التقاعد العادي سيصل إلى 66.4 عامًا للذكور، و65.9 عامًا للإناث في العديد من الدول.
أهم الدول في أنظمة التقاعد
الترتيب | الدولة | القيمة الإجمالية |
| 1 | هولندا | 84.8 |
| 2 | آيسلندا | 83.4 |
| 3 | الدنمارك | 81.6 |
| 4 | سنغافورة | 78.7 |
| 5 | فنلندا | 75.9 |
| 6 | النرويج | 75.2 |
على سبيل المثال، أقر برلمان الدنمارك رفع سن التقاعد تدريجيًا إلى 70 عامًا للمواليين بعد عام 1970، وسيتم تطبيق ذلك بالكامل بحلول عام 2040، نتيجة لزيادة متوسط الأعمار وانخفاض نسبة العاملين مقارنة بالمتقاعدين.
كما رفعت التشيك وسلوفينيا سن التقاعد من 65 إلى 67 عامًا ضمن سلسلة إصلاحات صناديق التقاعد في السنوات الأخيرة.
فوائد ومخاطر رفع سن التقاعد
يساعد رفع سن التقاعد الحكومات على تخفيف العبء المالي على صناديق المعاشات، ويعطيها الفرصة للتكيف مع التحولات الديمغرافية، كما يشجع الأفراد على البقاء في سوق العمل لفترة أطول، للحصول على مزايا استمرار المهارات ودعم الناتج الاقتصادي.
لكن هذا التوجه قد ينقل جزءًا كبيرًا من العبء إلى الفئات العاملة، خاصة أولئك الذين يعملون في المهن الشاقة أو ضمن ظروف غير مستقرة، وقد يثير مشكلات كبيرة للعدالة الاجتماعية إذا لم تُتخذ تعويضات أو بدائل ملائمة.
تؤكد النماذج العملية على سرعة هذا التحول، وفي ألمانيا، نفذت الحكومة إصلاحات تقضي بتقويض انخفاض المنافع، وتتضمن حوافز ضريبية لتشجيع استمرار العمل بعد سن 67 مع إتاحة دخل معفى ضريبيًا للعاملين فوق هذا السن بدءًا من 2026.
الخطر الذي يغفله الكثيرون يتعلق ببنية أسواق العمل، حيث يعمل حوالي 58% من العمال عالميًا في الاقتصاد غير الرسمي (حوالي ملياري عامل)، مع نسب أعلى بكثير في دول إفريقيا وآسيا والمحيط الهادئ، والبلدان النامية عمومًا.
هذا يعني أن جزءًا كبيرًا من القوة العاملة غير مشمول بتمويل معاشات، وبالتالي، فإن تأجيل سن التقاعد يزيد من احتمالية استمرار العمل تحت ظروف صحية واقتصادية صعبة، مما يهدد شبكة الأمان الاجتماعي.
ارتفاع سن التقاعد ليس حلاً تقنيًا محايدًا، بل إجراء له فوائد مالية على الموازنة العامة، لكنه يحمل مضاعفات صحية واجتماعية واضحة، ومن الضروري وجود حلول واقعية تحقق فوائد متعددة.
من بين هذه الحلول توسيع التغطية الاجتماعية للعاملين غير الرسميين، وتقديم برامج صحية ومهنية للوظائف المجهدة، وإنشاء آليات دفع مرنة تتيح معاشات جزئية للتقاعد التدريجي، وتبني سياسات سوق عمل تشجع التوظيف المستدام لكبار السن.
غياب هذه الحلول يمكن أن يؤدي إلى تحويل رفع السن إلى أزمة اجتماعية وصحية واسعة النطاق.
من المستفيد ومن المتضرر؟
تتراجع فكرة التقاعد كمرحلة ثابتة وواضحة مع تغير شكل المجتمعات، وارتفاع متوسط الأعمار، وتباطؤ نمو القوى العاملة، ومع قيام الدول بإعادة تقييم وضعها لواجهة الضغوط الديمغرافية، وضمان قدرة أنظمة المعاشات على الصمود، أصبحت التحولات من سن تقاعد موحد إلى مسارات أكثر مرونة خطوة ضرورية.
ومع ذلك، تطرح هذه الخطوة تساؤلات حول العدالة، فالحديث عن من يستفيد من التغيير ومن يتحمل تبعاته، فالإجراء الذي يساعد الحكومات ماليًا قد يصبح عبئًا ثقيلًا على العاملين الذين لا يتمتعون بالصحة الجيدة.
أكبر صناديق التقاعد
الترتيب | الدولة | حجم الصندوق (تريليون دولار أمريكي) |
| 1 | الولايات المتحدة | 11.7 |
| 2 | اليابان | 2.1 |
| 3 | كندا | 1.8 |
| 4 | هولندا | 1.1 |
| 5 | أستراليا | 1.1 |
يستفيد من هذا النظام بشكل رئيسي الأفراد ذوو المهارات العالية، والصحة الجيدة، وتاريخ العمل المستقر، حيث يمنحهم رفع سن التقاعد فرصة للعمل لسنوات إضافية، وزيادة مدخراتهم أو معاشاتهم التراكمية.
كما تستفيد الشركات التي تستطيع الحفاظ على الموظفين ذوي الخبرة بدلاً من خسارة المهارات وتدريب موظفين جدد، مما يقلل تكاليف الاستبدال ويحافظ على الإنتاجية.
على الجانب الآخر، ستكون الفئات الهشة أكثر عرضة للخسارة، مثل العاملين في المهن الشاقة، وذوي الدخل المنخفض، والعاملين في القطاع غير الرسمي، وذوي المشاكل الصحية المزمنة.
هؤلاء هم غالبًا الذين لا يستطيعون العمل حتى الأعمار المتقدمة، أو لا يحصلون على تغطية معاشات أو رعاية صحية ملائمة، مما يعني أن التأجيل الإجباري للتقاعد ينقلهم إلى العمل في ظروف صعبة أو الاعتماد على شبكة أمان اجتماعية ضعيفة أو غير موجودة، مما يهدد العدالة بين الأجيال.
بحسب تقرير منظمة التعاون الاقتصادي لعام 2025، أبدى أكثر من 40% من العاملين في الوظائف الميدانية قلقهم من القدرة على العمل حتى العمر الجديد للتقاعد بسبب الإرهاق الجسدي والمشاكل الصحية المزمنة.
تظهر التجارب في دول مثل ألمانيا والمملكة المتحدة التوتر الاجتماعي الذي يرافق هذه التعديلات، ففي ألمانيا، أثار رفع سن التقاعد جدلًا حول تأثيره على العمال في المهن اليدوية، بينما تشهد المملكة المتحدة نقاشًا مستمرًا حول زيادة سن المعاش إلى 68 أو 69 عامًا، مما يثير احتجاجات من العمال الذين يرون أن العمل لفترات أطول قد لا يكون ممكنًا.
تلك المؤشرات توضح أن الانتقال من نظام تقاعد ثابت إلى نظام مرن لا يضمن فقط استدامة صناديق المعاشات، بل يعيد رسم مفهوم العمل وحياة ما بعد الأربعين أو الخمسين.
كما تعكس أن مسألة سن التقاعد لن تختفي قريبًا، لكنها ستفقد هيكلها القديم، ويعاد تشكيلها لتصبح خيارًا متعدد المسارات بدلاً من محطة واحدة ثابتة.
المصادر: أرقام، يورنيوز، منظمة الصحة العالمية، منصة “أور وورلد إن داتا”، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، صندوق النقد الدولي، وكالة رويترز، إنفستوبيديا.




