مع الإعلان عن الوصول إلى صفقة، وموافقة الحكومة الاسرائيلية المصغرة على الاتفاق وحركة حماس، بدأت الجماهير من كل الأطراف بالإعلان عن الانتصار.
دعونا نضع الأمور في سياق واضح ونحلل موقف جميع الأطراف.
رغم تحفظي ورغبتي الدائمة في الصمت وعدم التعليق على أي شيء، مر حتى يومنا هذا قرابة العام ونصف على بدء الحرب. من جانب المقاومة، ترى أن الأمور كانت تستحق التحرك وفعل حدث جلل يعيد الوضع الفلسطيني إلى واجهة الأحداث. فبعد فترة حكم دونالد ترامب الأولى، كان الكثيرون يرون أن الأمور تغيرت كثيرًا وأن السلام أصبح مقابل السلام وليس الأرض مقابل السلام، في ظل وجود رغبة خليجية قوية في الاندماج مع مراكز اتخاذ القرار والتحول إلى مراكز اقتصادية دولية. ومع صعود تخوفهم من المد الإيراني وتأثيره على تحولات بلادهم وتزايد الأذرع في المنطقة، بات هناك توجه واضح للبحث عن تحالفات قائمة على المصالح أكثر من الاقتناع أو المفاضلة بين الرغبات الداخلية للدول والملفات الإقليمية.
ربما يكون هذا أحد الدوافع، وليس كلها، لما حدث. فالتوسع في المستوطنات كان طرفًا أيضًا.
قوى “الممانعة” أو المقاومة كانت تتخيل في ذلك الحدث تحريكًا للمياه، لكنها لم تتخيل رد الفعل. على مدار النصف عقد المنصرم، كانت إسرائيل تتبع نهج الحروب الخاطفة ولم تكن يومًا من الدول التي تخوض حروبًا طويلة وتتحمل تكلفتها كاملة من خسائر اقتصادية ودبلوماسية وأرواح. مع هذا التصور الخاطئ، بدأت الأمور تأخذ منحى الانهيار والخروج عن المتوقع.
ربما كان الدافع هو وجود الحكومة الأكثر تطرفًا في إسرائيل، والتي بدأت حربها باستخدام كلمات وأوصاف دينية كانت تمهد الطريق للمجزرة القادمة. بداية من “العماليق”، وهو وصف من التوراة يشير إلى حرب بين بني إسرائيل والعدو التاريخي لهم في أرض فلسطين، وصولًا إلى نشر خرائط لدولة اليهود قبل آلاف السنين، في محاولة لاستدعاء خارطة أكبر وصولًا لانقسام الدولة اليهودية إلى دولة يهوذا والسامرة. هذه الخطوات كانت مغازلة لليمين المتطرف للدخول في حرب بلا نهاية.
وربما كان الدافع هو الشعور بانهيار حائط الردع، ذلك الحائط الذي تحصنت به إسرائيل طوال السنوات الماضية بصفتها القوة العسكرية الأكثر حداثة، ومحاولة ترميم هذا الانهيار.
وربما كانت فرصة لإعادة التموضع وإعلان القوة، أملًا في العودة إلى ما قبل، واستعادة نظرية “السلام مقابل السلام”، أو ربما العودة لحرب تشبه حرب عام 1948 إذا سمحت الفرصة.
لكن الأكيد أن قوى المقاومة لم تحسب لحرب تستمر كل ذلك الوقت أو تكون بهذا العنف. على أقصى التقديرات، كانت التصورات تشير إلى حرب تمتد من 6 أشهر إلى عام بحده الأقصى.
تطورت الأحداث كثيرًا بين بداية الحرب ووقف إطلاق النار. الأمر ليس الأساس هنا ويحتاج للكثير من الحديث، لكننا سنمر عليه مرورًا سريعًا.
الأذرع المقصّفة
في يوم الثامن من أكتوبر، دخل حزب الله على ساحة المواجهة أو الإسناد كما سُميت. كان الحزب في أوجه، مسيطرًا على لبنان، منتشرًا على الأرض، ولا يخضع للقرارات الدولية. مع نهاية الحرب (إن كانت النهاية فعلًا)، فقد الحزب صفوفه الأولى والثانية وربما الثالثة. دُمّرت الكثير من قدراته، وفقد خطوط الإمداد، وعاد للتقوقع حتى في الداخل، مع وصول لبنان لاختيار الرئيس ورئيس الوزراء، وتدمير الجنوب.
لم يكن لبنان فقط من تأثر؛ فسوريا قبل الحرب كانت قد دخلت في مرحلة من التقسيم المقنع، حيث يفرض كل طرف سيطرته على منطقة. لكن مع ضعف حزب الله وتدمير القدرات العسكرية لجيش بشار الأسد، وتراجع الدعم الإيراني، والانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية، تغير الوضع في سوريا. سيطرت المعارضة واقتُطعت قطعة من الأرض تحت ذريعة المنطقة العازلة، وتوقفت خطوط الإمداد لحزب الله.
كذلك تأثر الحوثي في ظل وجود هجمات جوية شبه منتظمة عليه، وتراجع الدور الإيراني في العراق، تارة تحت الضغوط الدولية، وتارة خشية من صدام ربما يودي بمكاسب التيارات الشيعية ومكانتها.
دعونا نتوقف هنا عن الحديث عن المتغيرات، فالمتغير الإيراني يحتاج للكثير من النقاش، وكونه حتى اللحظة قيد التغير. لنأخذ خطوة للوراء لنناقش بؤرة الحدث.
البداية والنهاية
لنعد إلى طوفان الأقصى وصولًا إلى الهدنة، من جانب حركات المقاومة، كان الهدف العودة بالقضية الفلسطينية إلى الواجهة، في محاولة لوجود ضغط ورغبة دولية للوصول إلى حل الدولتين. ربما يكون هذا الهدف بعيد المنال، لكن القضية عادت للواجهة الشعبية والدبلوماسية، وعادت لتُوضع على طاولة تفاوض التطبيع ودمج إسرائيل في المنطقة.
لكن على الجانب الآخر، خسرت المقاومة أغلب مقوماتها العسكرية وقيادتها السياسية والعسكرية. وربما فقدت الكثير من شعبيتها، وفقدت معبر رفح الذي تمسكت به لسنوات كمدخل القطاع الوحيد.
وعلى الجانب الشعبي، خسر الشعب الفلسطيني أكثر من 40 ألف شهيد، وأكثر من 100 ألف مصاب. تحول القطاع إلى ركام مليء بمخلفات الحرب، بلا ماء، بلا كهرباء، بلا مستشفيات. ربما يحتاج لإعادة الإعمار لسنوات وسنوات. خرج الفلسطينيون يعانون من صدمات تطاردهم وتطارد الأطفال ما حيوا، وخرجوا بعشرات العائلات خارج السجل المدني.
على الجانب الإسرائيلي، خسرت إسرائيل صورتها التي سعت لعشرات السنوات لترسيخها كدولة ديمقراطية تراعي القانون الدولي. تكشفت الحقيقة أمام شعوب العالم، وخسرت اعتراف عدد من الدول بدولة فلسطين. صدر قرار الجنائية الدولية بمذكرة اعتقال لرئيس وزرائها ووزير دفاعها بتهمة ارتكاب جرائم حرب. كما خسرت فرصة “السلام مقابل السلام”، وعادت إلى حل الدولتين والأرض مقابل السلام.
لكنها كسبت في تقييد قدرات حزب الله والمقاومة في فلسطين، وكسبت في وضع إيران على جدول أعمال رئيس البيت الأبيض الجديد. كما كسبت في اقتطاع جزء من الأراضي السورية واللبنانية والضفة وغزة، تارة تحت شعار المناطق العازلة، وتارة تحت شعار الاستيطان المجرّم دوليًا، واستعادة صورتها القوية أمام دول المنطقة.
حينما بدأت كتابة هذا المقال، حاولت جاهدًا أن أفصل مشاعري الشخصية عما أكتب، وأضع الأمور في سياقها. فالحروب لا يوجد بها منتصر. حينما تدور عجلة الحرب، تبدأ النيران بالتساقط، والضحايا بالسقوط، وتتحول الأرض إلى ركام. ومع لحظة النهاية، يكون كل طرف جالسًا على طاولة التفاوض قد حقق جزءًا من أهدافه وخسر جزءًا. فلا يوجد انتصار مطلق أو هزيمة مطلقة بين طرفي الحرب. ليخرج كل طرف بعدها ليعلن انتصاره، مدللًا بما حقق، ومتجاهلًا ما خسر. ويبقى على الأرض دماء وجثث الشعوب التي تكون هي الخاسر الأكبر في كل حرب.
… وللحديث بقية.