تواجه القضية الفلسطينية واحدة من أعقد مراحلها خلال السنوات الماضية، لكن الأزمة ليست وليدة اللحظة، فدعونا نعُدْ إلى الوراء ونَحْكِ حكاية فلسطين: كيف بدأت، ومراحل تحولاتها، وكيف طُرحت الأرض مقابل السلام، والسلام مقابل السلام، ثم الأرض مقابل السلام مرة أخرى، وكيف وقعت أسيرة تيارات الإسلام السياسي.
بداية من صعود الحركة الصهيونية ووعد بلفور عام 1917، وتراجع الدور العثماني وصعود الدور البريطاني، وصولًا إلى الانتداب (الاحتلال) البريطاني على فلسطين عام 1920، حتى تلك الفترة كانت فلسطين دولة للجميع تضم كافة الإثنيات والعرقيات والأديان، فهي تضم المسجد الأقصى، وهي أرض ميلاد المسيح، وحائط البراق.
مع تنامي الحركة الصهيونية في تلك الفترة بدأت تحركات الهاجاناة ومحاولة الاستيلاء على أراضٍ وأجزاء من فلسطين، والمواجهات مع العرب في الأرض الفلسطينية، ثم تلتها الثورة الفلسطينية عام 1936 مع تنامي النزعة العربية والقومية، ووصول عدد من الدول العربية إلى اتفاقات حول التحرر من الاحتلال البريطاني، تضمنت تنازلات واتفاقات لتهدئة الأمر مع عدد من الدول، منها الأردن والعراق وسوريا.
وفي عامي 1937 و1938 بدأت تقارير لجنة بيل (اللجنة الملكية لفلسطين) وتقرير لجنة وودهد، وبدأت تتبلور فكرة تقسيم فلسطين لدولتين: دولة عربية ودولة عبرية.
لتنتقل الأمور عقب ذلك إلى قرار الأمم المتحدة عام 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، مع تدويل القدس.
بداية الصدام
تصاعدت الأحداث عقب إعلان انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في مايو 1948، وإعلان بن غوريون، الرئيس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية ومدير الوكالة اليهودية، قيام دولة إسرائيل، وصولًا إلى حرب 1948 (النكبة)، الحرب الأولى بين الدولة العبرية الوليدة والدول العربية، والتي شاركت فيها: مصر، الأردن، العراق، سوريا، لبنان، والسعودية. انتهت الحرب بسيطرة إسرائيل على مساحات واسعة، بما فيها القدس الغربية ومناطق أخرى كانت مخصصة للعرب، وأعادت الحرب تشكيل المنطقة ديموغرافيًا وسياسيًا.
تلت تلك المرحلة واحدة من أهم المراحل في تاريخ الصراع، ففي ظل صعود القومية العربية وثنائية القطب في العالم، بدأت حركات التحرر الوطني الفلسطيني في الظهور، منها حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، باختلاف تواريخ التأسيس. تشكلت وسط ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، التي تعد منظمة سياسية شبه عسكرية تأسست عام 1964 نتيجة لقرار مؤتمر القمة العربي 1964.
حرب 67
كانت المرحلة الأكثر خسائر في الصراع.. دعونا لا نتحدث عن مجريات الحرب أو أسبابها، فليست محل المقال اليوم. لكن الحرب كان لها تأثيرها الضخم على مجريات الصراع. فمع نهاية الحرب كانت إسرائيل قد سيطرت على الضفة من الأردن، والقدس الشرقية، وهضبة الجولان، وغزة، وسيناء، بدأت مرحلة جديدة من المعارك العسكرية والدبلوماسية، فكانت الدول العربية تسعى لاستعادة أراضيها، وكانت إسرائيل تطرح شعار الأرض مقابل السلام.
حرب 73
في أكتوبر 1973 تمكنت مصر من استعادة سيناء بين الحرب وتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، وصولًا لاستعادة الأرض كاملة في عام 1982.
شكلت حربا 67 و73 مراحل مهمة في الصراع. فعقب وأثناء تلك الحروب وقبلها كانت القضية الفلسطينية قضية عربية خالصة، لا تمييز فيها بين تيار سياسي وآخر، ولا بين ديانة وأخرى.. كان الحديث عن أراضٍ عربية تم اقتطاعها وإنشاء دولة غريبة عليها.
لكن مع نهاية تلك المراحل بدأت ترتفع أصوات ما سُمّي بتيارات الإسلام السياسي، وهو ما انعكس بشكل قوي على القضية الفلسطينية، وربما يكون واحدًا من الإشكاليات الأكبر فيها.
الانقسام وظهور الإسلام السياسي
كانت بداية التحول داخل القضية حين أُعلن عن تأسيس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين عام 1981، والتي هدفت إلى قيام حكم إسلامي على أرض فلسطين، رافضةً حل الدولتين. وفي عام 1987 أُعلن عن تأسيس الفصيل الأكبر في تيارات الإسلام السياسي، حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، التي اعتُبرت امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين. لم تكن إسرائيل ترى في تلك الحركات خطرًا قويًا، بل ربما رأت فيها فرصة لإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك.
وفي عام 1988 بدأت فكرة حل الدولتين على الأراضي المحتلة عام 1967 تلقى قبولًا لدى منظمة التحرير، وانتهت إلى توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بقيادة الراحل ياسر عرفات، والاعتراف بإسرائيل في مقابل الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، وتأسيس سلطة حكم ذاتي فلسطينية في الضفة وقطاع غزة.
بدأت الأزمة تتشكل حين انقسمت الفصائل الفلسطينية بين الراغبين في حل الدولتين والتيارات الراديكالية الإسلامية التي ترفع شعار “من النهر إلى البحر”، وبين الدعم الدولي والعربي لحل الدولتين، وبين دعم تيارات الإسلام السياسي لبعضها البعض هذا الانقسام انتهى بانفصال قطاع غزة عن السلطة الفلسطينية وسيطرة حماس عليه.
استغلت إسرائيل شعار “من النهر إلى البحر” والانقسام الفلسطيني للترويج لنفسها في العالم وتبرير جرائمها بأنها دفاع عن نفسها ضد من يرغب في إلغاء وجودها ويرفض السلام.
ما بعد الربيع العربي ووصول ترامب
في تلك الفترة بدأ النفوذ الإيراني يتزايد في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما انعكس على القضية الفلسطينية، حيث زادت العلاقات بين الجهاد الإسلامي وبين حماس وإيران، ونشأ ما يسمى بمحور المقاومة. هذا الوضع وضع الدول العربية في أزمة؛ فما بين محورية القضية الفلسطينية، والرغبة في حل الدولتين، ووجود نهاية للصراع، بدأت الخشية من النفوذ الإيراني تتزايد.
تلا ذلك وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وبدأ طرح صفقة القرن، التي سعى فيها لطرح السلام مقابل السلام، والسعي لجعل القدس بالكامل لإسرائيل عبر نقل السفارة إليها، مستغلًا التمدد الإيراني في المنطقة وصعود الجماعات الإرهابية. لكن الأمر لم يصل إلى ما كان يريد، ووقف عند الاتفاق الإبراهيمي.
طوفان الأقصى وما قبل وما بعد
كانت إسرائيل تتفاخر بفكرة السلام مقابل السلام، وتحاول بكل الطرق البعد عن أي حل يعيد توحيد القوى الفلسطينية، ويوحد القطاع مع الضفة، ويعيد ملف حل الدولتين للطاولة. حينما بدأ الطوفان كان البعض يرى فيه تحركًا لإعادة القضية للطاولة.
مع زيادة الدموية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وسقوط آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المصابين، بدأت صورة إسرائيل تتكشف أمام العالم والشعوب. عاد للطاولة مرة أخرى حل الدولتين كآلية لا يمكن الاستغناء عنها للسلام، وبدأت أحلام إسرائيل تتبخر مع كل نقطة دماء تُسيل على الأرض، ومع كل خبر يُنشر، ومع الذهاب للجنائية الدولية، والتظاهرات في كافة دول العالم. عاد الملف مرة أخرى.
في تصوري ما حدث هو عملية انتحار من حماس، لكنها كانت تعلم أنها تنتحر في تصور منها أنه لا حل آخر، وهي تعلم جيداً أنْ لا أحد عاقل يستطيع أن يتصور أن يسمح العالم بعودة حماس لحكم قطاع غزة.
فرصة تاريخية
تراجع تيارات الإسلام السياسي عن الحكم في فلسطين، وانهيار الأذرع الإيرانية، ووجود فرصة لتوحيد الصفوف الفلسطينية، ربما يكون فرصة تاريخية للعودة إلى عروبة وأنسنة القضية الفلسطينية، وإعادتها إلى طاولة التفاوض مرة أخرى.. العودة إلى الأرض مقابل السلام، وإنهاء ملف الانقسامات، فالقضية عربية، إنسانية، دولية، وليست إسلامية.