لطالما لعبت ألمانيا دورا مهما في المسيحية في أوروبا، فالاسم القديم لألمانيا كان الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والتي لعبت دورا منافسا لبابا روما سياسيا، حتى إن الأديب فولتير قال عنها: ليست رومانية ولا مقدسة ولا إمبراطورية، ثم تلعب ألمانيا مرة أخرى دورا خطيرا، فتقسم الكنيسة الأوروبية إلى كاثوليك وبروتستانت بظهور حركة مارتن لوثر الإصلاحية في القرن الخامس عشر، لتتحول دول بأكملها بحكامها إلى البروتستانتية مثل إنجلترا؛ وبالتالي أكبر دولة في العالم حاليا الولايات المتحدة، ويصل تأثيرها حتى مصر التي بها عدد من الطوائف الإنجيلية.
وتاريخ المسيحية في أوروبا تاريخ مليء بالعنف، فهي لم تنتشر في شمال أوروبا مثلا بالتبشير كما يشاع، ولكن بحد السيف، فالحملات الصليبية ومحاكم التفتيش لم تطل فقط المسلمين واليهود، بل كان هناك ما يسمى بالحملات الصليبية الشمالية التي ربما أكتب عنها في مقال منفصل، وكانت حروب ضد الوثنيين من عباد أودين وثور وحروب أيضا ضد المسيحيين الأرثوذوكس في شرق أوروبا، ثم بعد ظهور مارتن لوثر كما ذكرنا اشتعلت الحروب الأهلية في أوروبا، وشهدت قتل وسلب ونهب وبقر لبطون الحوامل.
ورغم كل ذلك فما زالت الكاثوليكية في ألمانيا هي أكبر طائفة، وهتلر ولد لأم كاثوليكية وهي كلارا هتلر وأب متحرر الفكر مشكك في الكنيسة، وتم تعميده في الكنيسة الرومان كاثوليكية، وفي بداية عهده أظهر هتلر احتراما للمسيحية تغير بعد ذلك، لكنه أيضا كان يعارض الإلحاد حسب ريتشارد فيكارت في كتابه ديانة هتلر، وفي خطبة له عام 1932 قال إنه ليس كاثوليكيا ولا بروتستانتيا، ولكن مسيحي ألماني، وكان الحزب النازي يدعم ما يسمى بالمسيحية الإيجابية، وهي تخلط المسيحية النيقية بالنازية، وتستبعد العناصر اليهودية كالعهد القديم، حتى إن هتلر قال إن المسيح هو محارب آري يحارب المادية اليهودية.
لكن حسب أليكساندر كليفورد قال هتلر في حفل تأبين أحد الأصدقاء المتوفين إنه يتمنى له النعيم في جنة فالهالا، وهي جنة الفايكينج والديانات الشمالية الوثنية، وحسب جو شاركي في كتاب هتلر وتدمير المسيحية الألمانية فإن هتلر كان يؤجل الصراع مع المسيحية لأسباب سياسية، إلا أنه كان ينتوي القضاء عليها.
وربما كانت الكنيسة الكاثوليكية تشعر بنوايا هتلر ومن هنا كانت قناة التواصل بين البابا بيوس الثاني عشر والنازيين، وهو أمر تأكد من وثائق افرج عنها الفاتيكان، وكتب عنها ديفيد كيرتزر في كتاب البابا والحربThe Pope at War وجون كرونويل في كتاب بابا هتلرHitler’s Pope ، وإن كان جزء من ذلك معلنا متمثلا في اتفاقية رايشسكونكوردات Reichskonkordat بين سكرتير الفاتيكان أيوجينيو باتشيلي (وهو من سيكون البابا بيوس 12 فيما بعد) وحكومة هيندنبرج، لتضمن الكنيسة حقوقها وحقوق رعيتها في المانيا، وهي اتفاقية ما زالت سارية حتى وقتنا هذا.
وبينما يزعم كيرتزر أن البابا حمى عدد كبير من اليهود الإيطاليين وقام بتعميد عدد منهم لتجنيبهم الإبادة في معسكرات هتلر، يتهم كورنويل البابا بأنه دعم حكم هتلر في مقابل مكاسب للكنيسة، كما تشير المؤرخة سوزان زوكوتي بإصبع الاتهام للبابا متهمة إياه بالصمت على حدوث الهولوكوست. لكن تورط البابا أو عدمه ليس ما يهم هنا، فرجال الدين عادة يجنحون للممالئة للحفاظ على نفوذهم، وهو أمر شهدناه حتى في مصر إبان ثورة البشموريين في عهد الخليفة العباسي المأمون، وهو أمر تحدثت عنه في مقال سابق لي.
لكن ما البديل المقترح لاستبدال المسيحية في أوروبا؟ فقد حكينا عن المسيحية الألمانية والمسيحية الإيجابية بأعلى وهي محاولات لتحريف المسيحية ونزع العناصر اليهودية منها، ولم تكن تلك المحاولات لتتوقف، فقد كان في مطبخ الحزب النازي المزيد، متمثلا فيما يسمى حركة الإيمان الألمانية أو دويتشة جلاوبنزفيجونج Deutsche Glaubensbewegung، وهي تقوم على مبادئ منها أن الدين إثني ويخص إثنية بعينها، وعقيدة الدم والأرض النازية وهي ربط العرق الآري بالأرض التي يستقر عليها، والشعبوية الألمانية وحركة الوثنية الجيرمانية الجديدة والتصوف الألماني أو الأريوصوفية.
كانت تقام شعائر الدين الجديد بمصاحبة موسيقى كلاسيكية المانية للمؤلفين المشاهير مع أناشيد سياسية، وأعطى رودلف هيس نائب هتلر الضوء الأخضر لهذا الدين الجديد، وأن يكون محميا من قبل الدولة، واعتبره جريجوري أليس امتدادا للحزب النازي في كتابه صناعة الدين في دولة فاشية، خصوصا لأن الدين الجديد يخلط الوثنية الألمانية بالنازية ويسعى لتحويل هتلر إلى شخصية ورمز ديني.
كان رمز الدين الجديد مستمدا من عجلة الشمس وهو رمز عند الآريين والهندوجيرمان عموما، وخلطه بالصليب المعقوف للنازية، استخدمته جماعة ثول Thule-Gesellschaft أولاً، وهي جماعة ألمانية خفيانية تهتم بما وراء الطبيعة، وتزعم أصول آرية للشعب الألماني مرتبطة بحضارات متفوقة في الهند وبلاد فارس واليونان وروما كمدخل لمرويات التفوق العرقي الآري.
وكان من المعروف عن هاينريش هيملر الإيمان بأمور خرافية كثيرة، وتوجد مزاعم بأنه أرسل حملات للبحث عن مطرقة الإله ثور والكأس المقدسة للمسيح والحربة المقدسة التي طعن بها المسيح على الصليب لمزاعم بقوتها المهولة وقدرتها على نصر الجيوش، وبحث أيضا عن بقايا الصليب الخشبي المقدس، وبعث بعثات علمية الى رهبان التيبيت للبحث في مكتباتهم عن أدلة عن الأصول الآرية للجيرمان، بل إن بعض الباحثين الألمان زعموا بأن قدماء المصريين هم من أصول آرية.
المنظر النازي ألفريد روزنبرج المقرب من هتلر ومحرر جريدة الحزب فولكيشر بيوباختر، له كتاب يسمى خرافة القرن العشرين Der Mythus des zwanzigsten Jahrhunderts، نشر سنة 1930 وباع مليون نسخة، وحصل على جائزة الدولة للفنون والعلوم من هتلر، ويزعم أن الآريين جنس متفوق من قارة أطلانتيس، وكان جوبلز يسخر من هذا الكتاب في الجلسات الخاصة ويمدحه في العلن.
والكتاب يحكي عن الأصل الآري للحضارة الجيرمانية والمصرية القديمة وحضارات أخرى وأن علية القوم في مصر هم من قارة أطلانتيس الغارقة، لكن هذه الحضارات العظيمة انهارت بسبب التأثيرات السامية، ولهذا يجب أن تستأصل ألمانيا الساميين كما يستأصل السرطان. ويزعم أن الآريون هم من أنشؤوا حضارات الهند وفارس قبل الإسلام وكذلك اليونان وروما، وأن الجيرمان أنهوا الحضارة الرومانية لأنها تلوثت بتأثيرات يهودية بالتزاوج مع اليهود وباعتناق الدين المسيحي اليهودي الأصل.
ويزعم أن البروتستانتية حوربت في فرنسا ودول أخرى للقضاء على التأثيرات الآرية، وأن الثورة الفرنسية كانت المرحلة النهائية للقضاء على الآرية، رغم أنه يرى أن كلا من الكاثوليكية والبروتستانتية هي مسيحية سلبية، وأن البروتستانتية هي فقط نصف إصلاح وأن ما فعله مارتن لوثر لا يكفي لبلوغ المراد الجيرماني.
يرى روزنبرج أيضا أن المسيح كان نصف آري ونصف يهودي، وأن المسيحية كانت ديانة آرية تلاعب بها اليهود أتباع الإله يهوه وبولس الرسول، وأن المسيحية من أسباب انهيار المانيا الروحي، ويرى أن المسيحية المرقيونية المثنوية وهي نسخة من المسيحية تلفظ العهد القديم وإله اليهود الغاضب الذي يختلف عن الإله واسع المغفرة، وكذلك الديانة المانوية وهي ديانة آرية قديمة وخليط من البوذية والزرادشتية والمسيحية، مناسبتان أكثر للرؤية النوردية للعالم، كما اقترح إحياء الديانات الجيرمانية والوثنية القديمة.
ويرى البروفيسور يوهانيس شتايزينجر أن روزنبرج لعب الدور الأكبر في صياغة الأيديولوجية النازية، ويقول أحد قضاة محاكمات نورمبرج روبرت جاكسون إن كتاب روزنبرج يدعو إلى دين نازي جديد عجيب، ويقول رودلف هوس قائد معسكر الإبادة في أوشفيتز إن هذا الكتاب كان ملهما له في معاداة السامية، تم إعدام روزنبرج في 1947.
الكتاب الفرنسي المثير للجدل صباح السحرة Le Matin des Magiciens يزعم تورط هتلر والنازية في عالم السحر والشعوذة والماورائيات وعلاقة قوية لهتلر بجمعيات المشعوذين مثل ثوليه جيزيلشافت كما ذكرنا بأعلى وتعاليم السحرة، وإن كان رودلف هيس هو المثبت أنه كان منضما رسميا لتلك الجمعية الغامضة، كما كان تأثر هاينريش هيملر بالميثولوجيا الجيرمانية واضحا.
من هنا نرى أن المسيحية لم يكن ليكون لها مستقبل في أوروبا النازية، فالنازية تراها دينا متأثرا باليهودية، لا يخدم أهداف التوسع والنقاء العرقي، بل إنها من عوامل انهيار الحضارات بسبب الأفكار اليهودية بها وعدم منعها لاختلاط الأعراق والتزاوج بين اليهود وغيرهم، وتصطدم معها فيما يخص مكانة الفوهرر والمساواة بين الناس وعمل الخير وحرمة النفس البشرية، وبالفعل شرع النازيون في المرحلة الأولى من إزاحة المسيحية بتقديم المسيحية الألمانية والمسيحية الإيجابية المائلتين للنازية والمبتعدتين عن التراث اليهودي، إلا أن الاعتبارات السياسية وخصوصا أن النازية في بداياتها والمجتمع الألماني تتوغل المسيحية في أعماق ثقافته حالت دون الإكمال، لأن هتلر كان يرى أن مناطحة المسيحية ستجعله يخسر شعبيا.
لكن هذا المقال ليس فقط نظرة نحو الماضي، فالمجتمع الألماني قد تغير كثيرا عن وقت النازية، وكذلك المجتمع الأوروبي ككل، ونسب المسيحية انخفضت وزادت نسب الإلحاد، بل وهناك عودة فعلية للأديان الوثنية بداية من السبعينيات، ففي تعداد السكان البريطاني عام 2022 أعلن 74000 من السكان أنهم يعتنقون ديانات وثنية قديمة.
وفي آيسلاندا تم بناء أول معبد لأودين وثور منذ 1000 عام، كما تم إنشاء الكونجرس الأوروبي للديانات الإثنية، وعاد الاحتفال بمهرجان الربيع الوثني ومهرجان الحصاد الوثني مع ترحيب واهتمام شعبي بهم، أضف إلى ذلك صعود كبير لليمين الفاشي في كل أوروبا، كل هذه المدخلات قد تؤدي إلى تنشيط للمعادلة النازية القديمة، وأنا هنا لا أدافع عن المسيحية، ولكن عن الإنسانية والحضارة وتطور المجتمعات نحو الأحسن في مواجهة العنصرية والفاشية والبربرية والرجعية.